فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {يغشى} قراءة حمزة والكسائي بالتاء من فوق، والباقون بالباء؛ ردًّا إلى النُّعَاسِ، وخرَّجوا قراءة حمزة والكسائي على أنها صفة لـ {امَنَةً}؛ مراعاة لها، ولابد من تفصيل، وهو إن أعربوا {نُعَاسًا} بدلًا، أو عَطْفَ بيانٍ، أشكل قولهم من وَجْهَيْن:
الأول: أن النُّحاة نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أو عَطْفُ البيانِ، قدِّمت الصفة، وأخر غيرها، وهنا قد قدَّموا البدلَ، أو عطف البيانِ عليها.
الثاني: أن المعروفَ في لغة العرب أن يُحَدَّث عن البدل، لا عن المبدَل منه، تقول: هِنْد حُسْنُها فاتِنٌ، ولا يجوز فاتنة- إلا قليلًا- فَجَعْلُهم {نُعَاسًا} بدلًا من {أمَنَةً} يضعف لهذا.
فإن قيل: قد جاء مراعاة المبدَل منه في قول الشاعر: [الكامل]
وَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّرِاةِ كَأَنَّهُ ** مَا حَاجِبَيْنهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ

فقال: مُعَيَّنٌ مراعاة للهاء في كأنه ولم يُرَاعِ البدل- حاجبيه- ومثله قول الآخر: [الكامل]
إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّها وَرَواحَهَا ** تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعضَبِ

فقال: تركت؛ مراعاة للسيوف، ولو راعَى البدل لقال: تركا.
فالجوابُ: أنَّ هذا- وإن كان قد قَالَ به بعضُ النحويينَ؛ مستندًا إلى هذين البيتين- مُؤوَّلٌ بأن معين خبر لِحاجبيه لجريانهما مَجْرَى الشيء الواحدِ في كلام الْعَرَبِ، وأنَّ نصب غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا على الظرف، لا على البدل. وقد تقدم شيء من هذا عند قوله: {عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102].
وإن أعربوا {نُعَاسًا} مفعولًا به و{أمَنَةً} حالٌ يلزم الفصل- أيضا- وفي جوازه نظر، والأحسنُ- حينئذٍ- أن تكون هذه جملة استئنافية جوابًا لسؤال مقدَّر، كأنه قيل: ما حكم هذه الأمَنَة؟ فأخبر بقوله: تغشى.
ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على {نُعَاسًا} وتكون الجملة صفة له، و{مِنْكُمْ} متعلق بمحذوف، صفة لِـ {طَائِفَةً}.
قوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} في هذه الواو ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنها واو الحالِ، وما بعدها في محل نَصْبٍ على الحال، والعامل فيها {يَغْشَى}.
الثاني: أنها واو الاستئناف، وهي التي عبر عناه مَكيٌّ بواو الابتداء.
الثالث: أنها بمعنى {إذْ} ذكره مَكي، وأبو البقاءِ، وهو ضعيفٌ.
و{طائفة} مبتدأ، والخبر {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} وجاز الابتداء بالنكرة لأحدِ شيئين: إما للاعتمادِ على واو الحالِ، وقد عده بعضهم مسوغًا- وإن كان الأكثرُ لم يذكره-.
وأنشدوا: [الطويل]
سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا ** مُحَيَّاكِ أخْفَى ضَوْءهُ كُلَّ شَارِقِ

وإما لأن الموضعَ تفصيلٌ؛ فإن المعنى: يغشى طائفةً، وطائفة لم يغشهم.
فهو كقوله:
إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ** بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَولِ

ولو قُرِئ بنصب {طَائِفَة}- على أن تكون المسألةُ من باب الاشتغالِ- لم يكن ممتنعًا إلا من جهة النقلِ؛ فإنه لم يُحْفظ قراءة، وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} كما تقدم.
الثاني: أنه {يَظُنُّونَ} والجملة قبله صفة لِـ {طَائِفَة}.
الثالث: أنه محذوفٌ، أي: ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل، والجملتان صفة لِـ {طَائِفَةٌ} أو يكون {يَظُنُّونَ} حالًا من مفعول {أهَمَّتْهُمْ} أو من {طَائِفَةٌ} لتخصُّصه بالوَصْف، أو خبرًا بعد خبر إن قلنا: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} خر أول. وفيه من الخلاف ما تقدم.
الرابع: أن الخبر {يَقُولُونَ} والجملتان قبله على ما تقدّم من كونهما صفتين، أو خبرين، أو إحداهما خبر، والأخْرَى حالٌ.
ويجوز أن يكون {يَقُولُونَ} صفة أو حالًا- أيضا- إن قلنا: إن الخبرَ هو الجملة التي قبله، أو قلنا: إن الخبر مُضْمَرٌ.
قوله: {يَظُنُّونَ} له مفعولان، فقال أبو البقاءِ: {غَيْرَ الحق} المفعولُ الأولُ، أي أمرًا غير الحق، و{باللهِ} هو المفعول الثاني.
وقال الزمخشريُّ: {غَيْرَ الحق} في حكم المصدر، ومعناه: يظنون باللهِ غير الظن الحق الذي يجب أي يُظَنَّ به. و{ظَنَّ الجاهلية} بدل منه.
ويجوز أن يكون المعنى: يظنون بالله ظن الجاهلية و{غَيْرَ الحق} تأكيدًا لِـ {يَظُنُّونَ} كقولك: هذا القول غير ما يقول.
فعلى ما قال لا يتعدى ظن إلى مفعولين، بل تكون الباء ظرفية، كقولك: ظننت بزيد، أي: جعلته مكان ظني، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قولَ الشاعر: [الطويل]
فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ ** سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ

أي قلتُ لهم: اجعلوا ظنكم في الفي مُدَجَّجٍ.
ويحصل في نصب {غَيْرَ الحق} وجهان:
أحدهما: أنه مفعول أول لِـ {يَظُنُّونَ}.
والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشريُّ.
وفي نصب {ظَنَّ الجاهلية} وجهان- أيضا-: البدل من {غَيْرَ الحق} أو أنه مصدر مؤكِّد لِـ {يَظُنُّونَ}.
و{بالله} إما متعلِّق بمحذوف على جَعله مفعولًا ثانيًا، وإما بفعل الظنِّ- على ما تقدم- وإضافة الظنِّ إلى الجاهلية، قال الزمخشريُّ: كقولك: حاتم الجود، ورجل صدقٍ، يريد: الظنَّ المختص بالملة الجاهلية، ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية.
وقال غيره: المعنى: المدة الجاهلية، أي: القديمة قبل الإسلام، نحو: {حَمِيَّةَ الجاهلية} [الفتح: 26].
قوله: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} {من}- في {مِن شَيْءٍ}- زائدة في المبتدأ، وفي الخبر وجهانِ:
أحدهما- وهو الأصحُّ-: أنه {لَنَا} فيكون {مِنَ الأمر} في محل نصبٍ على الحالِ من {شَيءٍ} لأنه نعتُ نكرة، قدم عليها، فنصب حالًا، وتعلق بمحذوفٍ.
الثاني:- أجازه أبو البقاء- أن يكون {مِنَ الأمر} هو الخبر، و{لنا} تبيين، وبه تتم الفائدةُ كقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4].
وهذا ليس بشيء؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذٍ يتعلق بمحذوفٍ، وإذا كان كذلك فيصير {لَنَا} من جملة أخرى، فتبقى الجملةُ من المبتدأ والخبر غير مستقلةٍ بالفائدةِ، وليس نظيرًا لقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فإن {لَهُ} فيها متعلق بنفس {كُفُوًا} لا بمحذوفٍ، وهو نظيرُ قولكَ: لم يكن أحدٌ قاتلًا لبكرٍ. فلبكر متعلق بنفس الخبر. وهل هنا الاستفهام عن حقيقته، أم لا؟ فيه وجهانِ:
أظهرهما: نَعَمْ، ويعنون بالأمر: النصر والغلبة.
والثاني: أنه بمعنى النفي، كأنهم قالوا: ليس لنا من الأمر- أي النصر- شيء، وإليه ذَهَبَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ.
ولكن يضعف هذا بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} فإن من نَفَى عن نفسه شيئًا لا يجاب بأنه ثبت لغيره؛ لأنه يُقِرُّ بذلك، اللهم إلاَّ أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة، فكأنَّهم قالوا: ليس لنا من الأمر شيءٌ، بَلْ لمن أكرهنا على الخروج وحَمَلَنا عليه، فحينئذ يحْسُن الجوابُ بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} لقولهم هذا، وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراض بين الجُمَل التي جاءت بعد قوله: {وطائفة} فإن قوله: {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم} وكذا {يَقُولُونَ}- الثانية- إما خبر عن {طَائِفَةٌ} أو حال مما قبلها.
وقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} قرأ أبو عمرو {كُلُّهُ}- رفعًا- وفيه وجهان:
الأول:- وهو الأظهر- أنه رفع بالابتداء، و{لله} خبره والجملة خبر إنَّ نحو: إن مال زيد كله عنده.
الثاني: أنه توكيد على المحل، فإن اسمها- في الأصل- مرفوعٌ بالابتداء، وهذا مذهبُ الزَّجَّاجِ والجَرْمي، يُجْرُون التوابعَ كلَّها مُجْرَى عطف النسق، فيكون {للهِ} خبرًا لِـ {إنَّ} أيضا.
وقرأ الباقون بالنصب، فيكون تأكيدًا لاسم إنَّ وحَكَى مكي عن الأخفش أنه بدل منه- وليس بواضح- و{للهِ} خبر إنَّ.
وقيل على النعت؛ لأنَّ لفظة كُلّ للتأكيد، فكانت كلفظة أجمع.
قوله: {يُخْفُونَ} إما خبر لِـ {طَائِفَةً} وإما حال مما قبله- كما تقدم- وقوله: {يَقُولُونَ} يحتمل هذينِ الوجهينِ، ويحتمل أن يكون تفسيرًا لقوله: {يُخْفُونَ} فلا محلَّ له حينئذٍ.
قوله: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ} كقوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} وقد عرف الصحيح من الوجهين.
وقوله: {ما قُتِلْنا هاهنا} جواب {لَوْ} وجاء على الأفصح، فإن جوابها إذا كان منفيًا بـ {ما} فالأكثر عدم اللام، وفي الإيجاب بالعكس، وقد أعرب الزمخشريُّ هذه الجُمَلَ الواقعة بعد قوله: {وطائفة} إعرابًا أفْضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر فقال: فإن قُلتَ: كيف مواقعُ هذه الجُمَلِ الواقعة بعد قوله: {وطائفة}.
قُلْتُ: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} صفة لـ {طَائِفَةٌ} و{يَظُنُّونَ} صفة أخرى، أو حالٌ، بمعنى: قد أهمتهم أنفسهم ظَانِّين، أو استئنافٌ على وجه البيانِ للجملة قبلها و{يَقُولُونَ} بدلٌ من {يَظُنُّونَ}. اهـ. بتصرف.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ}: فأهل التحقيق والتوحيد يصلون بعد فتراتهم إلى القول بتَرْكِ أنفسهم، وغَسلِ أيديهم منهم، ورفع قلوبهم عنهم فيعيشون بالله لله، بلا ملاحظة طمع وطلبة، بل على عقيدة اليأس عن كل شيء. عليه أكّدُوا العهد، وبدَّلُوا اللحظ، وتركوا كل نصيب وحظ، وهذه صفة مَنْ أنزل عليه الأمَنةَ.
فأمَّا الطائفة التي أهمتهم أنفسهم- فبقوا في وحشة نفوسهم، ومِنْ عاجل عقوبتهم سوءُ عقيدتهم في الطريقة بعد إيمانهم بها؛ قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
والإشارة في قوله تعالى: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر شَئ} لهؤلاء أنهم يتحيَّرون في أمرهم فلا إقبال لهم على الصواب بالحقيقة، ولا إعراض بالكلية، يحيلون فترتهم على سوء اختيارهم، ويضيفون صفوة- لو كانت لقلوبهم- إلى اجتهادهم، وينسَوْن ربَّهم في الحالين، فلا يبصرون تقدير الحق سبحانه. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ}: فَمَنْ عَرَفَ أن المنشئ الله انسلخ عن اختياره وأحواله كانسلاخ الشَّعْرِ عن العجين، وسَلَّمَ أموره إلى الله بالكلية. وأمارة مَنْ تحقق بذلك أن يستريح من كدِّ تدبيره، ويعيش في سعة شهود تقديره.
وقوله: {يُخْفُونَ في أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ}: لم يُخْلِصُوا في عقائدهم، وأضمروا خلاف ما أظهروا وأعلنوا غير ما ستروا، وأحالوا الكائنات على أسبابٍ توهموها.
قال تعالى: {قُلْ لَّوْ كُنتُم في بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}.
أخبر أن التقدير لا يُزَاحَم، والقَدَر لا يُكابَرَ، وأن الكائناتِ محتومة، وأن الله غالب على أمره.
وقوله: {وَلِيَبْتَلِىَ اللهُ مَا في صُدُورِكُمْ}: فأمّا أهل الحقائق فإنه تعالى ينتزع من قلوبهم كل آفةٍ وحجبة، ويستخلص أسرارهم بالإقبال والزلفة، فتصبح قلوبهم خالصةً من الشوائب، صافيةً عن العلائق، منفردةً للحق، مجرَّدَةً عن الخلق، مُحَرَّرة عن الحظِّ والنَّفْس، ظاهرةً عليها آثارُ الإقبال، غالبًا عليها حُسْنُ التَوَلِّي، باديةً فيها أنوارُ التجلي. اهـ.

.من فوائد أبي السعود:

قال رحمه الله:
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} أي إن الغلبةَ بالآخرة لله تعالى ولأوليائه فإن حزبَ الله هم الغالبون أو إن التدبيرَ كلَّه لله فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائِه فلا مردَّ له وقرئ كلُّه بالرفع على الابتداء وقوله تعالى: {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم} أي يُضمرون فيها أو يقولون فيما بينهم بطريق الخُفية {مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} استئنافٌ أو حال من ضمير يقولون وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأمر} الخ، اعتراضٌ بين الحال وصاحبِها أي يقولون ما يقولون مُظْهِرين أنهم مسترشِدون طالبون للنصر مُبْطنين الإنكارَ والتكذيبَ، وقوله تعالى: {يَقُولُونَ} استئنافٌ وقع جوابًا عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: أيَّ شيء يخفون؟ فقيل: يحدثون أنفسَهم أو يقول بعضُهم لبعض فيما بينهم خُفيةً: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئ} كما وعد محمد عليه الصلاة والسلام من أن الغلبةَ لله تعالى ولأوليائه وأن الأمر كلَّه لله أو لو كان لنا من التدبير والرأيِّ شيءٌ {مَّا قُتِلْنَا هاهنا} أي ما غُلبنا أو ما قُتل مَنْ قُتل منا في هذه المعركةِ على أن النفيَ راجعٌ إلى نفس القتلِ لا إلا وقوعه فيها فقط، ولما برحنا من منازلنا كما رآه ابنُ أُبي ويؤيده تعيينُ مكانِ القتلِ وكذا قوله تعالى: {قُل لَّوْ كُنتُمْ في بُيُوتِكُمْ} أي لو لم تخرُجوا إلى أُحُد وقعدتم بالمدينة كما تقولون {لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل} أي في اللوح المحفوظِ بسبب من الأسباب الداعيةِ إلى البروز {إلى مَضَاجِعِهِمْ} إلى مصارعهم التي قدَّر الله تعالى قتلَهم فيها وقُتلوا هنالك ألبتةَ ولم تنفَعِ العزيمةُ على الإقامة بالمدينة قطعًا، فإن قضاءَ الله تعالى لا يُرَدّ وحكمُه لا يُعقَّب، وفيه مبالغةٌ في رد مقالتِهم الباطلةِ حيث لم يُقتَصرْ على تحقيق نفسِ القتلِ كما في قوله عز وجل: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} بل عُيِّن مكانُه أيضا، ولا ريب في تعيُّن زمانِه أيضا لقوله تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.
رُوي أن ملك الموتِ حضر مجلسَ سليمانَ عليه الصلاة والسلام فنظر إلى رجل من أهل المجلسِ نَظرةً هائلة فلما قام قال الرجلُ: من هذا؟ فقال سليمانُ عليه السلام: ملكُ الموتِ، قال: أرسِلْني مع الريح إلى عالم آخَرَ فإني رأيتُ منه مرأى هائلًا فأمرها عليه السلام فألقتْه في قُطر سحيقٍ من أقطار العالم فما لبث أن عاد ملكُ الموتِ إلى سليمانَ عليه السلام فقال: كنت أُمِرْتُ بقبض روحِ ذلك الرجلِ في هذه الساعةِ في أرض كذا فلما وجدتُه في مجلسك قلت: متى يصِلُ هذا إليها وقد أرسلتَه بالريح إلى ذلك المكانِ فوجدتُه هناك.
قال: هذا ملك الموت عليه السلام قال لقد رأيته ينظر إلي فكأنه يريدني قال فما تريد؟ قال أريد أن تحملني على الريح فتلقيني بالهند قال فدعا بالريح فحمله عليها فألقته بالهند ثم أتى ملك الموت سليمان عليه السلام فقال: أنك كنت تديم النظر إلى رجل من جلسائي قال كنت أعجب منه إني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك. اهـ.
فقُضي أمرُ الله عز وجل في زمانه ومكانِه من غير إخلالٍ بشيء من ذلك، وقرئ كَتَبَ على البناء للفاعل ونصبِ القتلُ، وقرئ كُتب عليهم القتالُ وقرئ لبُرِّز بالتشديد على البناء للمفعول {وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا في صُدُورِكُمْ} أي ليعاملَكم معاملةَ مَنْ يبتلي ما في صدوركم من الإخلاص والنفاقِ ويُظهرَ ما فيها من السرائر، وهو علةٌ لفعل مقدرٍ قبلها معطوفةٌ على علل لها أخرى مطويةٍ للإيذان بكثرتها، كأنه قيل: فعلَ ما فعل لمصالحَ جمةٍ وليبتليَ الخ، وجعلُها عِللًا لبَرَز يأباه الذوقُ السليمُ فإن مقتضى المقامِ بيانُ حكمةِ ما وقع يومئذ من الشدة والهولِ لا بيانُ حِكمةِ البروزِ المفروضِ، أو لفعلٍ مقدرٍ بعدها أي وللابتلاء المذكورِ فعلَ ما فعل، لا لعدم العنايةِ بأمر المؤمنين ونحو ذلك، وتقديرُ الفعل مقدمًا خالٍ عن هذه المزية.
{وَلِيُمَحّصَ مَا في قُلُوبِكُمْ} من مخفيات الأمورِ ويكشِفَها أو يُخلِّصَها من الوساوس {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي السرائر والضمائرِ الخفيةِ التي لا تكاد تفارقُ الصدورَ بل تلازمها وتصاحبُها، والجملةُ إما اعتراضٌ للتنبيه على أن الله تعالى غنيٌ عن الابتلاء، وإنما يُبرِز صورةَ الابتلاءِ لتمرين المؤمنين وإظهارِ حالِ المنافقين، أو حالٌ من متعلَّق الفعلين أي فَعل ما فَعل للابتلاء والتمحيصِ والحال أنه تعالى غنيٌ عنهما مُحيطٌ بخفيات الأمورِ، وفيه وعدٌ ووعيد. اهـ.